فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويلاحظ هذه في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد، تطرية للذكر، قوله:
عجِّلْ لنا هذا وألحقنا بذا الـ ** شـحم إن قد مللنا بَجلْ

أي: فقط، فذكر الألف واللام، خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني، استبعد العهد بالأولى، فطري ذكرها، وأبقى الأول في مكانها.
ومن ثم استدل ابن جني على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيت كامل، وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن.
قال: ولو كان بيتًا واحدًا، لم يكن عهد الأولى متباعدًا، فلم يكن محتاجًا إلى تكريرها، ألا ترى أن عبيدًا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأول أل، لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم يرعهدها بعيدًا، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي:
يا خليليّ ارْبَعا واستخبرا الـ ** مـنزل الدَّارس عن أهل الحلالِ

مثل سحق البُردِ عفّى بَعْدَكَ الـ ** قـَطْرُ مَغْنَاهُ وتَأْوِيبُ الشمالِ

إربعا: أقيما، الحلال: اسم امرأة، سحق البرد: يريد مثل البرد المسحوق أي: البالي، وعفى بالتشديد: محا، القطر: المطر، مغناه: هو الموضع الذي كانوا يسكنونه، والشمال- بالفتح والكسر- من الرياح، ما مهبه من مطلع الشمس وبنات نعش، وهي لا تكاد تهب ليلًا، وتأويبها: هبوبها النهار كله.
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتًا. فانظر هذه النكته، كيف بالغت العرب في رعايتها، حتى عدت القريب بعيدًا، والمتقاصر مديدًا، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان، في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان. انتهى.
والقصيدة بتمامها في مختارات ابن الشجري بالصفحة رقم 37. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}.
استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين وقت الساعة.
ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم} [الأعراف: 185] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا، وهو الاستئصال، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة، فإن الكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين.
وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم، البعثَ وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل مُمزققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ أفترى على الله كذبًا أم به جنةٌ} [سبأ: 7، 8]، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزًا له، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوممٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون} [سبأ: 29، 30].
فالسائلون هم المشركون، وروي ذلك عن قتادة، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن، كقوله تعالى في سورة النازعات (42): {يسألونك عن الساعة أيّانَ مرساها} وقوله: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون} [النبأ: 1 3] يعني البعثَ والساعة، ومن المفسرين من قال: المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة، وهذا لا يكون سبب نزول الآية، لأن هذه السورة مكية، قيل كلها، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة، ولم يعُدوا هذه الآية، فيما اختُلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضًا نازلة قبل هذه السورة.
والساعة معرّفةً باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي، وتسمى: يومَ البعث، ويومَ القيامة.
و{أيّان} اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من أي الاستفهامية وأن وهو الوقت، ثم خففت أي وقلبت همزة أن ياء ليتأتى الإدغام، فصارت أيّان بمعنى أي زمان، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد أيان، ولذلك يتعين أن يكون اسمَ معنى لا اسمَ ذات، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت متى من الاستفهام إلى الشرطية، وهي توسيعات في اللغة تَصيرُ معاني متجددة، وقد ذكروا في اشتقاق أيان احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال، وكلها غير مرضية، وما ارتأيناه هنا أحسن منها.
فقوله: {أيان} خبر مقدم لصدارة الاستفهام، و{مرساها} مبتدأ مؤخر، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل أي أن آن مُرسى الساعة.
وجملة: {أيان مُرساها} في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل {يسألونك} والتقدير: يقولون أيان مرساها، وهو حكاية لقولهم بالمعنى، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة: {يسألونك عن الساعة}.
والمُرْسَى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رَسَا الجبل ثُبت، وأرساه أثبته وأقره، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل:
وقال رَائدُهم أرْسُوا نزاوِلُها

ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى: {بسم الله مجراها ومرساها} [هود: 41]، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيهًا لوقوع الأمر الذي كان مترقبًا أو متردد فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده.
وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكْم، إظهارًا لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة، وتعليمًا للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علْم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمْر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه.
فقد ورد في الصحيح أن رجلًا من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله ماذا أعْدَدْتَ لها؟ فقال ما أعددتُ لها كبيرَ عَمل إلاّ أني أحب الله ورسوله فقال أنتَ مع مَن أحببت».
وعلْمُ الساعة هو علم تحديد وقتها كما ينبئ عنه السؤال، وقوله: {لا يُجليها لوقتها إلاّ هو}، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أيْ علْم وقتها، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وظرفية عند مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها.
والحصر حقيقي: لأنه الأصل، ولما دل عليه توكيده بعَد في قوله: {قل إنما علمها عند الله}، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى.
والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماءٌ إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطإهم وإلى شبهة خطإهم.
والتجلية الكشف، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين، والكشفَ بالإيقاع، وكلاهما منفيُ الإسناد عن غير الله تعالى، فهو الذي يعلم وقْتها، وهو الذي يُظهرها إذا أراد، فإذا أظهرها فقد أجلاها.
واللام في قوله: {لوقتها} للتوقيت كالتي في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78].
ومعنى التوقيت، قريب من معنى عندَ، والتحقيقُ: أن معناه ناشيء عن معنى لام الاختصاص.
ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء، وهو الإظهار، لأنه الذي إذا حصل تَم كشف أمرها، وتحقق الناسُ أن القادر على إجلائها كان عالمًا بوقت حلولها.
وفصلت جملة: {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير.
وقدم المجرور وهو {لوقتها} على فاعل {يجليها} الواقع استثناء مفرغًا للاهتمام به تنبيهًا على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة.
وجملة: {ثقلت في السماوات والأرض} معترضة لقصد الإفادة بهولها، والإيماء إلى حكمة إخفائها.
وفعل {ثقلت} يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة، أمرها كقوله: {ويذرون وراءهم يومًا ثقيلًا}.
ويجوز أن يكون تعجيبًا بصيغة فعُل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل، فيكون من قبيل قوله: {كُبرت كلمة تخرُج من أفواههم} [الكهف: 5].
والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكِبَر، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئًا ثقيلًا، ومنه قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا} [المزمل: 5] أي شديدًا تلقيه وهو القرآن، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث، فوصفها بذلك مجاز عقلي، والقرينة واضحة، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفًا للزمان، ولكنه وصف للأحداث، فإذا أسند إلى الزمان، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفًا للأحداث، كقوله: {وقالَ هذا يومٌ عَصيبٌ} [هود: 77].
وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض، من تصادم الكواكب، وانخرَام سيرها، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين، والبحار، وجفاف المياه، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات.
ومن بديع الإيجاز تعدية فعل {ثَقُلَت} بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل، وحذفُ ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف إلى الذي يدل على ما يقع عليه الفعل، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة.
وجملة: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلاّ لله، وبأن الله غيرُ مُظهره لأحد، فدل قوله: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاءٌ متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سُؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة، لأن تلك الأمارات ممتدةُ الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها.
والبغتة مصدر على زنة المرّة من البغْت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً} في سورة الأنعام (31).
وجملة: {يسألونك كأنك حفي عنها} مؤكدة لجملة: {يسألونك عن الساعة} ومبينة لكيفية سؤالهم فلذيْنك فُصلت.
وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى.
و{حَفي} فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقًا من حَفي به، مثل غَنيِ فهو غَني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفًا، ويكون المعنى كأنك أكثرتَ السؤال عن وقتها حتى علمته، فيكون وصف حَفي كناية عن العالم بالشيء، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه، وبهذا المعنى فسر في الكشاف فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم، لأن السؤال سبب العلم، كقول السموْأل أوْ عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما:
سَلي إنَ جهلت الناسَ عنا وعنهم ** فليسَ سواءً عَالم وجَهُول

وقول عامر بن الطُفيل:
طُلْقت إنَ لم تسألي أي فارس ** حَليلُك إذْ لاقى صُداء وخثْعها

وقول أُنَيْفٍ بن زَبّانَ النبهاني:
فلما التقيْنا بيْنَ السيفُ بيننا ** لسائلةٍ عنّا حَفِيٌّ سؤالها

ويجوز أن يكون مشتقًا من أحفاه إذا ألح عليه في فعل، فيكون فعيلًا بمعنى مُفعل مثل حَكيم، أي كأنك مُلح في السؤال عنها، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى: {إنْ يسألكموها فيُحْفكم تبخلوا} [محمد: 37].